كيف أصبحت مدن غربية مدن دراجات هوائية ؟
- نبذة تاريخية عن تطور الدراجة الهوائية :
يعتبر تاريخ الدراجة الهوائية مليء بالتطورات المهمة الممتدة عبر عقود من الزمن , ففي القرن التاسع عشر ظهرت أول دراجة هوائية يمكن قيادتها بالتوازن و ذلك في عام 1817 على يد الألماني كارل درايس. وفي عام 1860 تم تطوير الدراجات الهوائية بشكل مشابه للتصميم الذي نعرفه اليوم.
بعدها شهد القرن العشرين تعميم استخدام الدراجات الهوائية ، حيث أصبحت وسيلة شعبية للتنقل والتجول و تم تطوير التصاميم وتحسين أداء الدراجات مع مرور الوقت بعدما ساهمت التطورات التقنية في تحسين أداء الدراجات وجعلها أكثر راحة وسهولة في الاستخدام.
مع حلول القرن الحادي والعشرين أصبحت الدراجات الهوائية اكثر من مجرد وسيلة تنقل، فقد أعتبرت عملية في تحسين البيئة و الإعتناء بالصحة و تطوير السياحة و الإرتقاء بالرفاهية الجماعية مما جعل عدة مدن تستثمر في تطوير البنية التحتية للدراجات الهوائية و اعتمادها كوسيلة تنقل مستدامة.
اليوم بفضل التطور التكنولوجي المستمر ظهر مفهوم الدراجات الهوائية الذكية المرتبطة بتطبيقات الهواتف المحمولة و التي تحتوي على تقنيات مثل نظام الملاحة الذكي وتكنولوجيا الاتصال و تسمح مثل هذه التقنيات للمستخدمين بتحسين تجربة ركوب الدراجات والاستمتاع بمزايا إضافية.
2. أسباب إنتشار إستخدام الدراجة الهوائية بالمدن.
تطورت أسباب إنتشار إستخدام الدراجة الهوائية مع مرور الزمن, ففي بعض المصادر كان أول ظهور للدراجة بسبب كارثة بيئية أثرت على نمط حياة السكان في اوروبا ففي عام 1815، أدى انفجار بركان جبل تامبورا الإندونيسي الذي كان واحداً من أقوى الثورات البركانية في التاريخ المسجل، إلى تغيير كبير في المناخ العالمي، فأدت سحابة الرماد المنتشرة حول العالم إلى خفض درجات الحرارة العالمية. ووفقاً لما ذكرته مجلة Smithsonian الأمريكية، فقد تسبب البركان بفشل المحاصيل الزراعية، وموت الكثير من الحيوانات وأبرزها الخيول التي ماتت جوعاً، وهو السبب الذي دفع العالم الألماني درايس لاختراع الدراجات الهوائية ليتم استخدامها بالتنقل بدلاً من الخيول.
لكن كان أول إنتشار كبير للدراجات الهوائية في المدن الغربية كان بسبب صدمة النفط الأولى التي بدأت في 15 أكتوبر 1973 حين قررت أوبك خفض الإنتاج من النفط، وفرض حظرا على شحنات من النفط الخام إلى الغرب، الولايات المتحدة وهولندا تحديدا، حيث قامت هولندا بتزويد الكيان المحتل بالأسلحة وسمحت للأميركيين باستخدام المطارات الهولندية لإمداد ودعم الكيان المحتل ونتيجة لهذا فإن سعر سوق النفط ارتفع بشكل كبير و سريع و توقف إستخدام السيارات بسبب إنعدام الوقود في عدة دول مما إضطر سكان عدة مدن لتبني الدراجة الهوائية كوسيلة تنقل.
كما لا يمكن تجاهل أن من بين الأسباب الرئيسية لتبني الدراجة الهوائية كوسيلة نقل هو الجانب البيئي حيث تبنى أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة البالغ عددهم 193 عضوا قرارا يدعم الدراجات كأداة لمكافحة تغير المناخ.
القرار الذي اقترحته تركمانستان، تم تمريره بالإجماع، حيث تدعو الدول الأعضاء إلى “دمج الدراجة في وسائل النقل العام، في المناطق الحضرية والريفية في البلدان النامية والمتقدمة.”
القرار يرتكز على أن زيادة ركوب الدراجات يساعد من خلال تحسين السلامة على الطرق والترويج لركوب الدراجات في تحقيق “التنمية المستدامة، بما في ذلك الحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري”.
القرار، وإن كان توصية، ومثل جميع قرارات الجمعية العامة غير ملزم، فهو يشجع بشكل أكثر تحديدا الدول الأعضاء على “الاهتمام بوضع مبدأ الدراجات ضمن استراتيجيات التنمية الشاملة، بما في ذلك خدمات مشاركة الدراجات”، وكذلك عند الإمكان في سياسات وبرامج التنمية الدولية والإقليمية والوطنية.
كذلك من بين الأسباب المهمة التي ساهمت في إنتشار إستخدام الدراجات الهوائية بالمدن هي المحافظة على صحة المواطنين و تقليص فاتورة العلاج فمن خلال دراسة سويدية نشرت في مجلة جمعية القلب الأمريكية في عام 2016 ، تقلل ممارسة الدراجة من خطر السمنة بنسبة 39٪ ، بنسبة 11٪ من الإصابة بارتفاع ضغط الدم ، بنسبة 20٪ زيادة الكوليسترول وأخيراً 18 ٪ من مرض السكري.
و يمكن ملاحظة قوة الأسباب الصحية أكثر من خلال أزمة الكوفيد التي انتشرت في العالم مع نهاية 2019 حيث كانت الدراجة الهوائية وسيلة النقل المثالية وسط المدن بفضل مساهمتها في إحترام التباعد الإجتماعي بين السكان و تقليص نسبة إنتشار الأمراض عبر العدوى، و ذلك ما دفع عدة مدن لإنشاء مسارات دراجات هوائية مؤقتة سميت بمسارات كورونا وقد تم ترسيم معظمها بعد نهاية الأزمة بعدما ظهرت أهميتها الكبيرة،
فمن خلال دراسة أجريت من 13 أفريل إلى 8 جويلية 2020 من طرف – سيباستيان كروس و نيكولا كوش أجريت على 106 مدينة أوروبية وضعت ممرات خاصة بالدراجات في فترة الكوفيد لضمان التباعد الإجتماعي أثناء التنقل لاحظا أن نسبة إستخدام الدراجة إرتفعت من 11 بالمئة إلى 48 بالمئة و هذا ساهم في إقتصاد ميزانية سنوية في مجال الصحة تتراوح بين 1 و 7 مليار دولار وهي قيمة جد معتبرة.
يمكننا ذكر الكثير من الأسباب و الدوافع الأخرى التي ساهمت في إنتشار الدراجات الهوائية بالمدن لكن سنختصر بعضها فقط فمثلا يمكن التعرف على رأي نائب رئيس بلدية عاصمة الدراجات كوبنهاغن السيد مورتن كابال حيث قال : ‘تحويل المدينة لتواكب الدراجات هي الطريقة الأسهل و الأقل تكلفة لتطوير مستوى حياة المواطنين‘ و هو يقصد ان أسهل طريقة و أسرعها و أقلها تكلفة لتطوير مستوى حياة المواطنين هي تهيئة البنية التحتية للمدينة لتصبح مدينة دراجات.
من بين الدوافع كذلك تنمية السياحة بالمدينة , التخفيف عن ضغط المواطن و زيادة في راحته النفسية, زيادة الإنتاجية في اماكن العمل بفضل الوصول بالدراجة بمعنويات مرتفعة و همة عالية تقضي على الخمول, تنمية شخصية الأطفال عبر نشر ثقافة التنقل بالدراجة الى المدارس و إكتساب المسؤولية الذاتية منذ الصغر.
3. امثلة عن تجارب تطور مدن غربية لتصبح مدن دراجات هوائية : تختلف التجارب حسب الزمان و المكان , سنسعى لتقديم أمثلة متنوعة :
3 .1 كوبنهاغن (عاصمة الدراجة في العالم بنسبة إستخدام تجاوزت 50 بالمئة):
تعتبر تجربة مدينة كوبنهاغن أفضل مثال لأول مدن الدراجات بالعالم حيث فرض سكانها هذا النمط من الحياة تحت وطأة أزمة الطاقة سنوات السبعينات والتي مرت بها عدة بلدان كما دكرنا سابقا حيث شهدت المدينة مظاهرات ضخمة للسكان بدراجاتهم لأجل المطالبة بمسالك خاصة بالدراجات و حماية السائقين خاصة بعد إنتشار الحوادث لإنعدام البنية التحتية الملائمة لإستخدام الدراجات الهوائية,
بعض المظاهرات و وقفات الإحتجاج أمام بلدية كوبنهاغن تجاوز عدد المشاركين فيها مئة ألف (100.000) مواطن بدراجته و هو رقم عظيم يصعب تحقيقه اليوم.
تحت ضغط المواطنين إستجابت بلدية كوبنهاغن و بدأت في تعميم مسالك خاصة بالدراجات في كل أرجاء المدينة لتصبح الدراجة نمط حياة سكانها و وسيلة تنقلهم الرئيسية ففي إحصائيات لسنة 2018 وجدو ان حوالي 1.2 مليون كلم تقطع يوميا بالدراجات في المدينة حيث أن توزع إستخدام وسائل النقل كالتالي : 49 % بالدراجة الهوائية , 27 % بالسيارات, 18 % بوسائل النقل العمومية, 6 % سيرا على الأقدام.
بعدما إستثمرت المدينة في البنية التحتية للدراجة الهوائية وابدعت في ذلك مثل جسر الأفعى للدراجات (Cykelslangen) إزداد جمال و متعة العيش بالمدينة مما جعلها تحتل المركز الأولى كأجمل هندسة عمران مدينة بالعالم لعدة سنوات متتالية.
بعد التهيئة النوعية لإستخدام الدراجة الهوائية تحولت متعة استخدام الدراجة بالمدينة إلى فخر لسكانها و شجعهم أكثر لإستخدامها و ساهم ذلك في إستقطاب الكثير من السياح و الذين بدورهم يفضلون القيام بمسارات سياحية بواسطة الدراجات الهوائية.
3 .2 غنت (50 كلم عن بروكسل بنسبة إستخدام تجاوزت 35 في المئة ):
تعتبر تجربة مدينة غنت أو قنط مثلما ذكرها الإدريسي في كتابه ‘نزهة المشتاق في اختراق الآفاق‘ مثال جميل يقتدى به في تحول مدينة إلى مدينة دراجات هوائية في فترة قصيرة.
يمكن تلخيص بعض إنجازات مدينة غنت المميزة المتعلقة بالدراجة الهوائية من خلال هذه الأرقام :
تم إنشاء 25 جسر و نفق خاص بالدراجات الهوائية خلال 10 سنوات فقط.
خلال سنة واحدة وهي 2010 تم إنجاز 158 كلم من مسارات الدراجات و لواحقها (مواقف و غيرها)
تم إنجاز أكثر من 31000 عمود موقف دراجات هوائية
ساهمت هذه الإنجازات في رفع نسبة إستخدام الدراجة الهوائية من 22 % سنة 2012 إلى 30 % سنة 2015 ثم إلى 35 % سنة 2018 و هذا إنجاز مذهل لأن الوصول إلى نسبة 35% كان مخطط لبلوغها مع حلول سنة 2030 و قد حقق 12 سنة قبل الوقت المبرمج.
قد يعتبر كذلك دور مخطط المرور الجديد بوسط المدينة سر أساسي في إنجاح هذه النسبة في وقت قصير حيث وضعت إدارة المدينة خطة ذكية للحد من إستخدام السيارات و التقليل منها إلى أقصى حد.
الفكرة ثمثلت في تقسيم المدينة إلى 6 مناطق تحيط بمركز المدينة و منع السيارات من الإنتقال من منطقة إلى أخرى مباشرة بل يجب عليها الخروج تماما من حيز هذه المناطق الستة و المرور عبر الطريق التي تحيط بها للدخول لمنطقة أخرى و هذه العملية تعيق من تنقل السيارات في المدينة و تنقص من عددها في كل منطقة بشكل كبير إلى درجة ان الكثير من الطرقات تحولت كليا إلى طرق دراجات هوائية مما جعل المدينة صديقة الدراجة بإمتياز.
يمكن التعرف أكثر على هذه التجربة المميزة من خلال هذا الفيديو :
3 .3 نيويورك :
ما يميز نيويورك أن لهم ثقافة تختلف كليا عن أوروبا فالمدن الكبرى بالعالم الجديد لها هندسة معمارية جد منظمة هندسيا كما أن ثقافة تهيئة المدن لتكون مدن دراجات ليست منتشرة مثل أوروبا
فكما تصرح السيدة ليسي بيغرز التي قدمت من مدينة امستردام حيث التنقل بالدراجة يتجاوز نسبة 27 % الى أمريكا حيث التنقل بالدراجة أقل من 1% ‘ عملت مع أحد المدافعين عن الدراجة بنيويورك السيد دوغ جوردن لأجل جعل المدينة صديقة أكثر للدراجة الهوائية و قد نجحنا في ذلك بأسرع ما كنا نتصور بفضل خطة ترتكز على نقطتين :
إنشاء مسارات دراجات كحلقات مغلقة و منفصلة ثم ربطها مع بعضها مع الوقت و إخراج مسارات أخرى منها
التركيز على إنشاء أكبر عدد ممكن من مواقف الدراجات المحروسة بالثرب من أماكن العمل و اماكن الدراسة
كما أن لمسارات التنزه بالدراجات في الحدائق دور مهم في نشر ثقافة متعة ركوب الدراجة و هذا ما نلاحظه في البارك المركزي بنيويورك
ملخص تجربة نيويورك أن مفتاح نجاح مدن الدراجات متعلق بعدد و أماكن مواقف الدراجات المحروسة
و بسبب تأخر الولايات المتحدة في تهيئة مدنها الى مدن دراجات مقارنة مع مدن أوروبا خصصت نيويورك ميزانية ضخمة تقدر ب 3,1 مليار دولار أبتداءا من سنة 2023 لتهيئة 500 ميل لمسارات دراجات محمية تماما إضافة لمسارات أخرى خاصة بالراجلين و الحافلات و قد خصصت قبلها في سنة 2019 1,7 مليار دولار لتهيئة 250 ميل لمسارات الادراجات الهوائية.
3 .4 إشبيلية:
بالعودة إلى القارة العجوز و بالضبط مدينة إشبيلية التي شهدت أغرب تجربة للتحول إلى مدينة دراجات لأنها إنطلقت من الصفر حيث تنعدم تماما ثقافة إستخدام الدراجة بالمدينة بشهادة سكانها الذين صرحوا أنه قبل سنة 2000 لم يكن أحد بالمدينة يستخدم الدراجة الهوائية كما لم تكن هنالك بطبيعة الحال تهيئة مخصصة لذلك, لكن في فترة وجيزة جدا تقدر بحوالي 12 سنة قامت فيها المدينة بمغامرة جريئة حيث قامت بتهيئة ضخمة بكل أرجاء المدينة خلال 4 مراحل لإنشاء مسارات دراجات و مواقف و النتيجة كانت مذهلة , أصبح الجميع يستخدم الدراجات : الجدات, النساء, الكبار, الصغار , الجميع.
تجربة إشبيلية تحطم قاعدة وجوب وجود ثقافة للدراجات لدى السكان لتصبح المدينة مدينة دراجات و هي تستحق الدراسة بالتفصيل و نحن نعرض لكم هذه الفيديو للتعرف أكثر عن هذه التجربة الفريدة
الخلاصة : مدن الدراجات ليست فقط محطات لكراء الدراجات أو خرجات سياحية بالدراجات بل هي نمط حياة يجتهد الجميع في إنشاءه بداية من السلطات المحلية التي يجب ان يكون لها مخطط جدي لتهيئة المدينة بميزانية مهمة و على قواعد صحيحة يشرف عليها خبراء ثم الجمعيات المحلية التي تنشر الثقافة بين السكان و في الأحياء و تشجع على إستخدام الدراجة و كذلك المؤسسات الإقتصادية و الناشئة لإنشاء حلول تجعل من إستخدام الدراجة تجربة رائعة.
تنوع تجارب الاخرين يوضح أنه يمكن لكل مدينة ان يكون لها تجربتها الخاصة في طريقة التحول الى مدينة دراجات, يجب فقط ان تكون إرادة قوية و جدية يتبعها مخطط واضح يطبق في الميدان.
بلال قرفي
رئيس جمعية عنابة مدينة الدراجة
annababikecity@gmail.com
المصادر :
